الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

ما بعد الحداثة والمسرح أبو الفنون

نشأت ما بعد الحداثة و أستمرت كـ حركة دينامكيه عصفت بكل الثوابت و الذهنيات العتيقه و قطعت كل ما فيه صلة بالقديم و التقليدي و بذلك تبلورة مؤطره تصور جديد للعالم مختلف كليا ً عن التصور التقليدي..

هي النزعة الفرديه و بدايات الرأس مالية و النظام الصناعي البيروقراطي.

مرحلة كتابات توماس مانا, جيمس جويس

الفنون التشكيلية:

امثال بابلو بيكاسو , هنري سترافنسكي

(هؤلاء يعكسون الحداثة بتغيرات في الفنون التعبيريه )
ترتبط بأعمال مؤلفيين موسيقين امثال..
بيلا بارتوك و أجور سترافنسكي..

و كما يقول فيزر ستون ملخصا ً الحداثة على النحو التالي..

الوعي الذاتي الجمالي و التأملي برفض التوليف التزامني المبني على السرديه ليشير للمفارقة و الغموض و الطبيعية غير المحدده و مفتوحة النهاية للواقع و رفض الشخصية المتكاملة من أجل التأكيد على الذات المتهدمه و المجرده من الصفات الانسانيه..

الحداثة بين البانتومايم ( التعبير الصامت ) و الكيروكراف ( الرقص الدرامي الحديث )

كما كان السبق لـ الفنان العراقي " طلعة السماوى " الذي اعتنق فكرته الغربيه منشأ ً مطوعها لـ العربية بإخضاعها لمتطلباته كانت له (نار من السماء )

و ايضا ً احمد محمد عبد الأمير الذي يمارس الكيروكراف في جامعة بابل ( مسرحية شك )

محتاج هذا النوع من المسرح الى الكثير من الدراسة و التجديد..

-------------------------------

ومضة سريعة على ما بعد الحداثة ( Postmodernism ) عموما ً:

و كما سعت الحداثة على عدم أنسنة الفن..

فـ إن ما بعدها تجريد كوكبنا من الطبيعة و اقصاء الانسان (كما ذهب ايهاب حسن )..

-

( حينما كنت و التجريب لم أجد تعريف يحتويه..

أو يصب فيه و يشكله بكل تفاصيله..

و كذلك "ما بعد الحداثة"..جميل أن لا تعريف يحده )..

فـ بالإتفاق أنه صعب التحديد أو حصره بزاوية الـ ماهيه و ربما كان السبب في عدم تعريفه او العجز بإيجاد معنى صريح له او محدد لأنه مستند لـ مفهوم الحداثة المناديه لـ تحرير العقل و لأنه يطلق على أمور متناقضة الى الحد الذي يفقده المعنى و مستقلا ً بكيفية مضاعفة..

فـ إجتهاد مني كان : ..

مشيرا ً الى انتقالنا الى طور جديد و يجاوز الحداثة ذاتها Moderiusm..


الذي اسسها ريتشارد فورمان في بلاد ( العم سام )

الهدف منها مسرحة التفكير بصور غايه في التعقيد حتى ينتجه تجريديا ً و بذلك يجعل من المشاهد مغرق وسط هستيريا انطولوجيه تطلقها الصور المتلاحقه و الممثلين متحديثن فقط لإيصال الأفكار..

مسرحي ما بعد حداثي آخر ( لي بروير )..مستخدم تقنية الرسوم المتحركة تنجزها اجساد الممثلين عن الحياة العاطفيه لـ الحصان..

و بذلك يخضع على الحصان البشريه مواصلا ً ان الإنسان يحتج على اكل لحوم الكلاب
ساكتا ً على لحوم البشر
أما ( روبرت ويلسون ) في نص ما بعد حداثي خاليا ً من أي بناء سردي بعبث البحث عن بداية او نهاية بفعل او رد فعل بعمله ( خطاب الى ملكة فكتويا )..
معتبرا ً روبرت هذا العمل اوبرليا ً رغم اختلافه من الغناء مكتفيا ص بالصراخ و بكلمات مبهمه و اصوات حوافر خيل و صفير قاطرات و دوي قنابل تتخللها صور مرئية من الجرائد و التلفزيون و السينما و اصوات رقميه و تعليقات اذاعيه..

بشكل مختصر دون اطناب..

الحداثي.. مساعيه تكلل عند عتبات الحقائق ذاتها لـ تحقق خصائص و قيم مشروعه بذاتها و لا تحتاج الى تبرير من خارجها..

ما بعد الحداثي..نسف معنى الحداثه و دك الفكرة الوهميه عن العلاقة انها وحده متكاملة لا تماثل الانفسها

و تختلف الحداثة عن ما بعدها.. بانها ذات هويه خاصة فهي جاءت كـ حمض مذيب كل الفواصل بين الفنون

فهي تتمرد حتى على فرضيات العرض نفسه..

فـ عروضه التي تتارجح بين [ تعبيرية – ملحميه – و اقعية ]..

لكن بعد أن تطوع كل تلك العروض لـ الوجه الحديث..

و الحداثة لا تشبه التقليدي القديم بل مفسده لها و مفككتها و بهذا قد استخدمتها
"ما بعد الحداثة" وسيلة التفكيك لكنها تفترق عنها في صيرورة الإستراتيجية..


-------------------------

و لا تنحصر في إطار الفنون فـ يمكن مناقشتها تشمل الثقافة كـ كل..

يقول تود جيتلنTodd Gitllin 89: أنها تختلف بأنواعها بتباين بين المواقف و انواع و اساليب متمازجه و متراكبة بوعي ذاتي..

يستمتع فيها بتعميم الأشكال و تحاورها ( خيالي – غير خيالي )..
المواقف ( ساخر – مباشرة ).. الحالات المزاجية..
( عنيف – كوميدي )..مستويات الثقافة ( منخفض – مرتفع )..و تجردها ساحبا ً البساط منها غير مبالي بتلك السقطه التي سيخلفها البساط المسحوب حينما يظهر الوعي الذاتي الحاد بطبيعة العمل المركب و ما بعدها الحداثة لعتبه هي على السطح متجاهلا ً و مستخف بالعمق من حيث كونه مجرد حنين لـ الماضي..

-------------------------------------------------------------
تقوم على نزع التاريخ تماما ً في ترتيب الأحداث و هي ليست تيارات او ممارسات مسرحية و لا يوجد تيارا ً مسرحيا ً يطلق بـ عنوان ( مسرح ما بعد الحداثة )..

و لكن هناك انماط تفكير و تيارات تسمى ما بعد الحداثة تجلت في بعض العلوم الإجتماعية على المستوى التطبيقي..

- العائد على تيار ما بعد الحداثة او الذي اعاده المسرح ما بعد الحداثة رغم كل الانتقادات..

فهي تؤكد أن المسرح لا بد أن يتجدد و يتعدل على الدوام مساره الفكري و الفني ..

" ما بعد الحداثة " تعتبر الحوار مجرد لغة مسطحة مقولبه و ليست وسيلة لـ الحوار..

--------------------------------

حينما يكون الشك اداة التطور..

بحيث تقود الشخص لتفكير بشكل مزدوج..

و رغم كم الإختلاف مع فرويد و ماركس و نيتشه فهم رواد فلاسفة الشك..

و كانوا اول من غرز ركيزة " مابعد الحداثة "..

و على ذات الشاكلة كان المسرح "مابعد الحداثي "..
حيث انه صلب التشكيك في تراجيدية فاجنر و تفكيك الفن المركب عنده..

مسرح القسوة اول من طالب بمسرحة الخيال الذي هو اشبه للحلم..

* ما بعد الحداثة تنتصب قامته بـ النص البصري و المخرج البصري..

فـ ميزة العرض أنه يحاكي تأويل المشاهد و تفاعله و ذاكرة جسد الممثل..

و النص البصري يقوم على ركيزتين كما ذهب بهما "فاضل سوداني"..

1-اللغة الحوارية البصرية (البعد البصري والمادي للكلمة وغنى دلالاتها التأويلية

2- لغة تداعي الأنساق البصرية في الفضاء الابداعي البصري (أي الحوار بين ذاكرة الجسد وتداعيات الفضاء بما فيها ذاكرة الاشياء والانساق الاخرى، وبين الفنان البصري ـ المخرج والممثل ـ والمتفرج)

- النص الأدبي و النص البصري..

الادبي مغلق حالة سرد محدد للمشكلة و دواعيها و حلولها ثرثرة الممثل تفي بإقصاء عقل المتفرج خارج حدود المشاركة × البصري المتفرج عنصر مشارك متفاعل و العرض بما يحمله النص من كم من الغنى التأويلي للعبارة المسرحية..

وقد اعزى انتونين آرتو سبب اعارض بعض مرتادين المسرح عن حضور العروض المسرحية

و السبب الحقيقي لسايكولجية المشاهدة حينما أكد: (اذا كف الناس عن عادة الذهاب الى المسرح، فذلك لاننا قد اعتدنا ـ طوال اربعمائة سنة، أي منذ عصر النهضة ـ على شكل روائي ووصفي للمسرح، مسرح يقوم على سايكولوجية رواية الحكاية)

و كان لـ انتونين ارتو اقتراح لأفول المسرح النفسي وهو ان (يوجد مسرح يسحق الصور المادية العنيفة فيه إحساس المتفرج وتبهره، وتشده الى دوامة من القوى العليا)..

الأربعاء، 13 أغسطس 2008

أسباب عزلة المشاهد عن المسرح التجريبي

المسرح فن ديمقراطي ولكن عزلة الانسان وتحوله في عالم اليوم الى ترس في آلة ضخمة من بين أسباب ظاهرة التجريب في المسرح الحديث الذي يكاد يخلو من الحوار بين طرفين حيث انتهى الحدث الدرامي وتحول المشاهد الى كائن معزول عن جاره الذي يشاهد العرض معه وعن المجتمع خارج المسرح.

فهيمنة رأس المال وتحول الانسان الى ترس في الة ضخمة تضم ملايين لا يعرف أحدهم زميله في العمل ولا جاره في المسكن ويتخصص عمليا في مهنة دقيقة أدى الى أن يصبح الفرد محور الكون ويحل في المسرح الحديث الذاتي (المونولوج) محل الحوار (الديالوج).

وفي ضوء هذه المتغيرات فسر عطية انتهاء الحدث الدرامي في كثير من عروض المسرح بعد أن كان يشكل فعلا فنيا متكاملا نرى من خلاله نتائج فعل حياتي لم يكتمل بعد في الواقع فنتجنب السير فيه حتى نهايته أو نعمل على تحقيقه من أجل حياة أفضل "وبدلا من الحدث الدرامي حل البوح الشعري والرقص التعبيري والحالة الموحية بدلالات أغلبها هلامي ووقتي أشبه ببقعة حبر تقع على ورقة مطوية يسقط عليها كل من يراها مفتوحة أفكاره الخاصة.

"لهذا لم يعد المسرح يحمل رسائل واضحة لجمهوره بل يترك لكل فرد حرية أن يستخرج الرسالة التي يبتغيها هو من العرض المسرحي."

ان المسرح العربي تأثر بهذا السياق التاريخي حيث أصبحت العروض نخبوية "وصار التجريب عندنا (في العالم العربي) تقليدا لتجريب الغرب وغيب المسرح الحوار بين شخصياته وبينه وبين جمهوره فغاب الحوار في المجتمع وتم تخوين كل رأي معارض أو مخالف وصارت السيادة للفوضى."

ويتفق كثير من النقاد في أن التجريب في المسرح العربي مجرد تقليد لا ينطلق من الواقع الاجتماعي أو الثقافي أو الحضاري العربي بل يراه بعضهم عجزا عن استيعاب تراث المسرح ويتحفظون على التكريس لعروض تجريبية لا يتفاعل معها الجمهور طوال العام أو من خلال مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.

ان المسرح فن ديمقراطي وليد مجتمعات ديمقراطية "بل انه في المجتمعات غير الديمقراطية يحل محل البرلمان ويتحول الى ساحة حوار حتى ولو تخفى في أردية تاريخية أو فانتازية."

و تحويل المسرح الى ساحة للبوح الذاتي وللصور المبهمة وللرقص الموحي أدى في النهاية الى عزلة المشاهد عن زميله الذي يتلقى العرض الى جواره وعن الشارع الذي يخرج اليه بعد العرض ليجده يمور بأحداث لا علاقة لها بالعرض الذي شاهده وعن المجتمع الذي هو بأمس الحاجة الى مشاركته في فعل جماعي للتغيير.

و رغم الاعتراف بأن المسرح التجريبي الذي هو وليد متغيرات الواقع أمر لا مفر منه فانه "لا يجعلنا أبدا نقر به."

ان الاعتراف ا بتدني الاغنية وهبوط السينما وتحليلنا لاسباب هذا التدني وذاك الهبوط لا يعني أبدا موافقتنا عليهما والرضوخ لما ال اليه حالهما وكذلك تفسيرنا لاسباب ظهور هذا المسرح الحداثي خاصة في الغرب لا يجعلنا أبدا نتفق مع معطياته أو على الاقل لابد وأن يدفعنا للتحاور مع هذه المعطيات والافكار التي يقدمها هذا المسرح في ضوء المتغيرات الاجتماعية التي شكلت جمهورا جديدا ذا مفاهيم جديدة."


الاثنين، 4 أغسطس 2008

مسرح نعمان عاشور

.. في بداية الخمسينات أصبح هناك مسرحا يعني اساسا بالصراعات السياسية وانعكاستها على المجتمع في صورة صراعات انسانية لا تقل عنها خطورة .. إلا ان ذلك المسرح الجديد ( الواقعي ) بطبيعة الحال لم يجد تسامحا من السلطة والتي كانت هي المعنية اساسا بالنقد .. لذا لجأ كتابنا الواقعيون الى الرمزية حينا وعدم المباشرة احيانا اخرى ز وفي حالة خاصة الى مسرح اللامعقول كما عند توفيق الحكيم .ولم تتعارض جدية الموضوعات التي اختاروا ان يناقشوها في ادبهم المسرحي مع محاولة الاقتراب من شكل الكوميديا الشعبية المصرية بما فيها من وسائل إضحاك وذلك تشويقا للجمهور وإغراء له بالقبال على مشاهدة تلك المسرحيات.. بل ويمكننا القول ان التيار الواقعي الرمزي في المسرح المصري قد جروء على تقديم تنازلا اعتبره البعض من كهنة الادب وقتها انحطاطا بالمسرح بل وبالادب عموما الا وهو استخدام اللهجة العامية العادية كلغة لحوار المسرحي وكان الهدف من ذلك طبعا هو محاولة الوصول بأقصر الطرق الى عقل ووجدان السواد الاعظم من جمهور المشاهدين كانت الافكار وليدة العصر .. لذا كان الاتجاه للهجة العامية في الحوار هو الانسب لأدب مسرحي واقعي معاصر يذيب الفوارق بين الطبقات وبما يبدو منسجما مع ما كانت تنحو اليه الحياه المتمذهبة بالأشتراكية .وعلى الرغم من ذلك .. لم تستطع تلك الاعمال الافلات تماما من تأثير أعلام المسرح الغربي امثال بريخت – يونسكو – بيكيت بصورة او بأخرى .. الا انها جميعا قد اشتركت في الاهتمام بعنصر الالتزام ( والذي يقع منه مسرح جان بول سارتر موقع الريادة ) والذي عنى بتناول القضايا السياسية والمشكلات الوطنية من خلال وجهة نظر معاصرة تعبر عنها مشاعر ونماذج انسانية بسيطة ولكنها بالغة العمق في الوقت ذاته .وهكذا اخذت في الظهور مسرحيات مثل ( الناس اللي تحت ) لنعمان عاشور .. ( ملك القطن ) ليوسف أدريس .. ( قهوة الملوك ) للطفي الخولي .. ( المحروسة ) لسعد الدين وهبة .. وغيرها .. فكانت تلك المسرحيات بمثابة بداية جديدة لمرحلة تطور هامة من مراحل تطور المسرح المصري المعاصر.صراع الطبقات .. وحلم المساواةخرج المسرح الواقعي الاشتراكي للوجود من رحم ثورة 1952 .. تداعب خيال رواده احلام المساواة والعدل وإنهاء الفوارق الطبقية .. وما الى اخر تلك الفراشات المراوغة لنيران الرأسمالية الغربية والاقطاع والبيروقراطية المصرية على حد سواء ..وكان المجتمع المصري آنذاك يحاول خلع نظام الاقطاع بقيمه الراسخة هادفا تحقيق شيء من تذويب الفوارق الطبقية والاجتماعية .. لذا رأينا اديبا كنعمان عاشور مثلا من خلال مسرحيته ( الناس اللي تحت ) يعرض لما يمكن تسميته بالصراع الوجودي في المجتمع المصري .. يبدأ الصراع في اضيق نطاق .. في المنزل الواحد بين الاب والابن .. ثم يتمدد هذا الصراع على نطاق اوسع ليجسد صراعا بين جيل بأكمله يتصف بنظرة جامدة للأمور .. نظرة مادية جشعة في اساسها ( الكمساري عبد الرحيم + بهيجة هانم صاحبة المنزل المزواجة ) .. وجيل آخر في سن الشباب ( عزت ) يتمسك بالمثل ويحرص على القيم ويتشوق الى عالم جديد قانونه حب البشرية والسلام . الا ان ذلك الصراع الذي قد يبدوا انه مبررا لطبيعة الاختلاف المرحلي بين القديم والحديث يتحول عند سعد الدين وهبة الى صراع بين طبقات المجتمع ذاته وذلك في مسرحيته ( السبنسة 1966 ) والتي ينتقد فيها الواقع الطبقي المفروض لتقنين درجات المجتمع الى ( اولى وثانية وسبنسة ) وما ادى اليه ذلك من ظلم يقع على الفقراء الابرياء واستغلالها من قبل الطبقة الاعلى في معاشها وارزاقها بل واعراضها .. هذا ما لخصه كلام ( ناظر المحطة ) قرب نهاية الاحداث : درجة اولى هنا – يشير ناحية الحكمدار والضابط – ودرجة تانية هنا – يشير ناحية درويش وفتحي – ودرجة تالتة هنا – يشير المتهمين وصابر . ولكن هذا الوضع الظالم يقابله تنظيم آخر من المفترض له التحقق في حالة لو سادت الاشتراكية الحقة المجموع الشعبي .. هذا ما بشر به ( العسكري صابر ) والذي رفض ان يصبح من الدرجة الثانية ذيلا للطبقة الاولى وجاحدا لطبقة السبنسة عندما يقول : برضه مش هتهرب يا درويش افندي .. لا انت ولا البهوات والباشاوات بتوعك هتهربوا .. هتروحوا فين ! القنبلة هتفرقع وتجيب عاليها واطيها .. الارض كلها قنابل .. بلدنا انزرعت قنابل خلاص وهتفرقع وتجيب اللي قدام وره واللي وره قدام .. البريمو هيبقى سبنسة والسبنسة هتبقى بريمو .فمن هو صابر هذا المبشر بنظام تتحقق فيه العدالة الحقة ! وما هي قصة القنابل التي يتحدث عن قرب انفجارها لتغير نظام القطر القديم ( رمز الحياة الطبقية الآسنة ) .. ان احداث مسرحية السبنسة التي تدور في قرية ( الكوم الاخضر ) هي ترجمة واقعية لمصر كلها ( آنذاك ) بما فيها من مآسي وطغيان .. والقنبلة التي يتحدث عنها هي الثورة التي توجد في كل مكان والتي لابد لها إزاء ظلم الطبقة الاولى من ان تنفجر ذات يوم لتغير الوضع الطبقي الجائر .الالتفاف حول الثورةالنظام الطبقي الظالم لم يكن على ما يبدوا الجرح الوحيد بجسد المجتمع المصري حديث العهد بالثورة والتحرر .. فها هو ( لطفي الخولي ) ينكأ آخر في مسرحيته ( القضية ) عندما يتسآئل " بعد تغير القوانين التي كانت سائدة في مجتمع ما قبل ثورة 1952 واحلال القوانين الاشتراكية سنة 1962 محلها .. هل افلحت تلك القوانين الاشتراكية الجديدة في القضاء على الخلل الذي كان عليه المجتمع قبلها ! ام ن الفئة الانتهازية وجدت لنفسها طريقا تمارس من خلاله اساليبها محاولة صعود الهرم الاجتماعي بالالتفاف حول ما حاولت الثورة تقديمه من مكاسب ! هل اقامت تلك الفئة لنفسها مواقع نفوذ جديدة تتعايش مع الواقع الثوري ( ظاهريا ) وتؤدي في النهاية الى كتم انفاس الشعب !لقد حاول ( نعمان عاشور ) الاجابة على مثل تلك التساؤلات بمسرحيتين .. الاولى ( وابور الطحين 1965 ) والتي استخدم فيها الاسلوب الواقعي الرمزي .. بينما لجأ في الثانية ( بلاد برة 1967 ) الى الواقعية المباشرة .. وفي كلا العملين اوضح عاشور بما لا يدع مجالا للشك ان القوانين الاشتراكية اصبحت وسيلة لتنفيذ مآربق الحكام المعوجة ( العمدة + سليم + خضيري .. في وابور الطحين ) وان تلك القوانين قد ركبتها الطبقة الرأسمالية الجديدة واستغلتها لصالحها حتى تظل لها الكلمة الطولى على الناس اللي تحت ( متولي + سالم .. في بلاد بره ) ذلك الاستغلال الذي عبر عنه ( سعد الدين وهبة ) في مسرحيته ( المحروسة 1965 ) على لسان العمدة الذي يوجه كلامه للغفير : " اسمع يا وله .. روح كده لخالتك ام فريد .. انا شايف عندها زغاليل كويسة .. وان إتلاءمت هات فريد معاك .. ده مطلوب في القرعة .. وان ادتك سيبه .. وشوف كمان الحاج ربيع ده عليه حكم في قضية حيازة .. فكره بيه وهو يديك على طول . " وكذلك على لسان المأمور في نفس المسرحية : " ....... دا انا حابس يجي خمستاشر واحد علي ذمتي ولا ورق ولا محاضر ولا يحزنون . " وكأن سعد الدين وهبة يصور بمسرحيته تلك بزوغ طبقة جديدة وارثة لأمتيازات الطبقة القديمة .. وهذه الطبقة الجديدة هي التي تنعرج بالمسيرة الثورية الاشتراكية نحو منعطفات من الانانية والتسلط والاستغلال .. وهي صفات تتكون منها أزمة ذلك المجتمع الذي يكاد يتحول الى مجموعة من ( الفرافير ) كما عند يوسف إدريس .الحاكم والمحكوم

الأحد، 3 أغسطس 2008

نشأة المسرح عند الإغريق

-الأعياد
ا- ديونوسوس
لم تكن العروض المسرحية الأغريقية القديمة تقدم بشكل دائم كما يحدث اليوم بل كانت تقدم فى إطار الأحتفالات الدينية المحددة التى تقع على فترات متباعدة . فقد كان العرض المسرحى جزء من احتفال رسمى مقدس . نشأ المسرح كباقى الفنون الأخرى فى أحضان الدين يظهر جلياً ذلك فى ارتباط المسرح بالمعبد فقد كان يُقام بجواره و نجد فى وسط الأوركسترا مذبحاً لتقديم الأضاحى للإلة ديونوسوس قبل و بعد الإحتفالية الدينية كما ظهر فى مسارح أثينا.
كانت العروض المسرحية تُقدم مرتين فى العام و هى الأيام المُخصصة لأعياد الإلة ديونوسوس . و كان يشرف عليها الإلة بنفسة و ذلك ينقل الكاهن تمثال الإلة إلى المسرح و كان له مقعد و سط مقاعد الشرف προεδρια فى الصف الأول. يؤكد ذلك أن المسرح كان دوراً للعبادة أكثر من كونه مكاناً مُخصصاً لتقديم العروض المسرحية. فقد اكتسب المسرح قداسة تماثل قداسة المعبد.
لعب الدين دور هام فى حياة الأثينيين فالدين عبارة عن مجموعة من العقائد و التقاليد التى يؤمن بها الناس دون أن يفهموا اصلها . لمس شعراء أثينا تأثير الدين فى نفوس الناس فجعلوا ابطال مسرحياتهم من الآلهة و ينسبوا إليهم أهم الأدوار و جعلوهم يتحكمون فى مصائر البشر . فكان ايسخولوس يشيد بيهم دائماً و يتغنى بعدلهم و يمجد سلطانهم . فزيوس عنده هو الإله الأكبر العادل الذى لا يظلم احد.و القاهر لكل عنيد جبار , سوفوكليس عاش فى عصر تحررت فيه العقول على يد الفلاسفة الذين علموهم كيف يتأملون فى ظواهر الكون و ينبذون التقاليد و المعتقدات البالية التى كان يؤمن بها أهل أثينا. هكذا مرت أثينا بفترة اهتزاز للعادات و العقائد المتوارثة.
فالإنسان أصبح يتحكم فى مصيره , ويختار بنفسه و يقارن الخير بالشر ثم يضرب ضربته , و يُحرز النصر , و ُيرضى السماء , لكنه إذا لم يترو , و تبع هواه فشل و أثار غضبها , لذا كان دور الآلهة فى مسرحيات سوفوكليس دور المرشد الذى ينصح الإنسان و لا يفرض عليه رأياً معيناً أو فكرة بذاتها. ثم تطورت الحياة الفكرية تطوراً شديداً , و ارتقت رقياً عظيما فى عصر يوريبيديس الذى آمن بالعقل وحده , و خرج على كافة التقاليد و سخر من المحافظين , و رأى أن الإنسان لا تربطه بالآلهة أية رابطة لأنه سيد نفسه يتصرف كيفما يشاء فى غير حاجة إلى مرشد أو دليل لأنه لا يعترف بشىء سوى العقل يحكمه و يهتدى بهديه .
و لم تقتصر العبادة اليونانية على تقديس الآلهة و إجلالهم , بل كان لها مظاهر أخرى أهمها الطقوس الدينية . و كانت تقيمها طوائف خاصة , تتمسك بمبادىء معينة , و تدين بتعاليم لا يطَّلع عليها إنسان قط , و لا يباح بكنهها لأحد . و يقال أن أيسخولوس قد حوكم لأنه أفشى أسرار الطائفة التى كان ينتمى إليها . و أهم هذه العبادات " أسرار أليوسيس" التى كانت تقام تكريماً لأبوللون و ديميترا ، ثم أصبحت تقام لهما و لديونوسوس عندما دخلت عبادته إلى أتيكا . و لقد أنتشرت هذه العبادة انتشاراً واسعاً , و أثرت تأثيراً واضحاً فى حياة الأثينيين بخاصة و اليونان بعامة , ثم فى حياة الرومان.
و لقد وصفها شيشرون قائلاً : " لم أر شيئاً أسمى من هذه الأسرار لأنها علمتنا أيضا كيف نسعد فى الحياة , و علمتنا كيف نبتسم للموت و لا نخشاه" .
و ثمة ظاهرة دينية أخرى انتشرت بين اليونان و أثرت فى أدبهم المسرحى, تلك النبوءات التى كان يسهر على خدمتها و يكتم أسرارها فئة من الكهنة , ينطقون بها شعراً أو نثراً بوحى من أحد الآلهة . و كثيراً ما ورد ذكر هذه النبوءات فى الشعر التمثيلى , و بخاصة نبوءة أبوللون فى دلفى , و نبوءة زيوس فى دودونا ( Dodona (
المسرح إذن دينى النشأة و ظل الدين مجالاً له و يعتمد عليه فى تعليم الشعب و شرح الطقوس و المراسم و تلقين الشعب مغزاها و عظاتها , و كان عبادة ديونوسوس أكثر العبادات اتصالاً بالمسرحية , و أشدها تأثيراً على تطورها لأن طقوسها كانت تتضمَّن كثيراً من الحركات التمثيلية , و تشتمل على عواطف متضاربة , يعبر عنها أتباع الإله فى بهجة و سرور تصحبها نكات غليظة , و ضحكات عالية , كانت بمثابة البذور التى نشأت منها الملهاة , و أحياناً أخرى يعبرون عنها فى حزن عميق مصحوب بالشكوى و الأنين , كان أصلاً للمأساة. فهو إله الزرع و رب الأشجار و النباتات و الفاكهة و الخضروات بكل أنواعها و هو الذى علم الإنسان الزراعة و بخاصة زراعة الكروم و البساتين و عصر الخمر و النبيذ , فهو إله الطبيعة بصفة عامة . و أصبح أكثر الآلهة شعبية على الرغم من أنه لم يكن من آلهة الأولمب الإثنى عشر. و نادراً ما نلتقى به فى أعمال هوميروس ، ربما لكونه غريباً على روح المجتمع الأرستقراطى الإغريقى . و كما تشير بعض الدلائل إلى أنه قد جاء من ثراكى أو من فريجيا , و يبدو أن عبادة هذا الإله قد دخلت البلاد فى وقت مبكر عن طريق قبائل كانت تعيش فى أسيا الصغُّرى . و كثيراً ما كان يبرز على السطح بعض المظاهر الغير يونانية لهذا الإله و أيضاً كان يتعارض مع التقاليد المتعارف عليها فى مجمع الآلهة ، فقد تميزت عبادته بالهمجية و الوحشية التى تصدم نفس الكثيرين من أهل الاستقامة فى ذلك العصر . ولهذا لم يكن سهلاً إدراك و فهم عدم منطقية و شذوذ ما كان يتم فى هذه المهرجانات الإحتفالية المكرسة له .
لقد كان الإله ديونوسوس يصطحب فى جولاته و مغامراته جماعة مهرِّجة من المخلوقات الأسطورية لا تمثل قوى الطبيعة المختلفة فحسب و انما تمثل أيضاً انفعالات الإنسان و عواطفة , و كان أغلب هؤلاء الأتباع يسمون بالساتير , الذين يسكنون الجبال و الأحراش و الغابات و هى مخلوقات أسطورية تتصف بالوقاحة و بأن نصفها إنسانى و النصف الآخر حيوانى , و لها شعر كثيف و آذان مدببة , بارزة و سيقان كأرجل الماعز , و من صفات هذه المخلوقات الجبن و الشبعة و الحيوية المتدفقة و العبث و المدح و الصخب.
و قد أحتل ديونوسوس مكاناً مرموقاً , و أمكن للإنسان أن يزيل آلامه و شجونه و أن يسعد بالمديح و البهجة فى أعياده , و هذا يُعزى إلى الرقص و الغناء المُعتاد فى إحتفالات الديونيسيا الكبرى التى كانت تتيح الفرصة لاجتماعات شعبية مرحة بوهيمية لجماعات السُكارى المرحة الماجنة التى يُطلق عليها اسم كومى Komoiو كان يفتتح عيد الديونيسيا بموكب يُرفع فيه عضو الإخصاب Phallos رمز الخصوبة كعلم قومى .
و سريعاً سيطرت عبادة ديونوسوس على مشاعر ووجدان الشعب الإغريقى ، فقد كانت هذه العبادة تمنح الإنسان إحساس بالحرية فى وقت سيادة حكم الفرد الاستبدادى على المدينة اليونانية. فالعبادة الجديدة قد وعدت الإنسان بالخلاص من كل الضغوط النفسية المحيطة به . فبدراسة الوضع الإجتماعى لحياة المدينة الإغريقية ، تجعلنا ندرك فى الحال الأسباب التى دفعت المرأة اليونانية إلى هذه العبادة . فقد كانت النساء محرومة و مقطوعة الصلة بالحياة الإجتماعية و السياسية ، فلم يكن لها أى دور حتى فى أشد العصور إزدهاراً ، فى القرن الخامس قبل الميلاد و هو العصر الذهبى لأثينا . فقد شعرت النساء بإنجذاب خاص لهذا الإله و عبادته التى تمنح الإنسان الخلاص و الحرية . فقد كانت جماعة الميناد mainades رفاق ديونوسوس تشيع جواً من الصخب و المرح و الغناء النشوان و الرقص و الإنغماس المفرط فى اللذة دفعت النساء إلى الخروج إلى الطبيعة و المشاركة فى هذه الطقوس الهمجية البدائية التى سادها الهوس الشديد إلى حد الإنفعال و الجنون . فقد كان كل من يؤمن به ينسى نفسه و يخرج من ذاته – و هذا ما تعنيه بدقة كاملة كلمة التجلى Ekstasis باليونانية ( Ecstasis بالإنجليزية) و هناك العديد من القصص الإسطورية التى تسرد لنا عن محاولات فاشلة لبعض الملوك لخنق هذه العبادة أو التخلُّص من العناصر الهمجية بها . و لكنها صمدت فى وجه كل المحاولات , فقد منحت الإنسان الحرية المُطلقة . ولكن كان على العبادة الجديدة أن تغير من بعض مظاهرها البدائية , كى تندرج داخل إطار برنامج العبادات و المهرجانات الدينية فى أثينا فى القرن السادس ق.م. و نتيجة لذلك, تم تقديم الأضاحى الرسمية التى كانت تقدم على شرف الإله ديونوسوس أمام الجماهير و فى وضح النهار ، و لم يكن لها أى علاقة بما كان يدور فى الماضى من مظاهر همجية بدائية فى منتصف الليل و فى الخلاء الوحشى .
فعبادة ديونوسوس التى ظاهرها البهجة و الحرية و الإخصاب هى القوة الخفية العميقة التى تدفع الحياة و تخلق فيها تغيرات لا نهائية و تفتح أمامهم إمكانيات لا حد لها، فالطبيعة حية تشارك الإنسان و الحيوان أفراحه و مخاوفه بحركتها الدائمة و بعراكها الممثل فى تنافر عناصرها الأربعة ، و خلف كل هذا تكمن صورة الوفرة و الرخاء و الأمن و الحرية الديونوسية و هى النهاية التى يرنو إليها العالم. و كانت النشوة التى يمكنه أن يجلبها نشوة ذات أنواع شتى . لقد كانت نشوة إلهية شائقة، تسمو بأصحابها ، إلا أنها لم يكن ثمة ما يحول بينها و بين " الانحلال" . و مما لا يكاد يرقى إليه الشك أن الأغريق فى هذه المناسبات ، و فى تلك الأيام التى كانت الدراما الصحيحة الصادقة فى دور التكوين فى تلك الأعياد التعبدية، كانوا يبيحون لأنفسهم قسطاً من الأعمال المتحررة . فالحياة أبدية و عند قيام مراسم ديونوسوس صانع الرقص لا يوجد رجل فى المدينة لا يرقص ، و ينثر الأهالى أكاليل الزهور على أرضها مع زهور الربيع رمز التجدد و البعث فليس هناك رقص بدون ديونوسوس و بدونه لا تكون الفصول الأربعة ممتعة.
و مع إنتشار هذه العبادة بين الناس صارت أكثر شعبية من أى إله آخر فى أثينا. ففى أثينا وحدها أقيمت على شرفه أربعة أعياد. و كانت تقام فى الشتاء و الربيع. فهناك عيد بدء الزراعة فى الريف فى شهرى( ديسمبر و يناير) و أعياد اللينايا(يناير و فبراير) و أعياد الربيع (فبراير و مارس) و الديونوسيا الكبرى ( مارس و ابريل) . من هذه الأعياد هناك عيدين ليس لهما إرتباط مباشر بالدراما وهما عيدا بدء الزراعة و عيد الربيع . كان الإله ديونوسوس يقدم على أساس أنه إله للزراعة و الإنبات الذى يضمن لهم الخصوبة وواهب النبيذ، فديونوسوس أول من أوحى للإغريق بزراعة الأعناب فى اليونان.
و هذه الخصائص التى تميز بها ديونوسوس ، مهما بدت لنا غريبة ، فإنها تبدو غريبة أيضاً على روح المباريات الدرامية بصفة عامة التى أقيمت فيما بعد . و من هنا يبدو لنا مدى الخسارة الكبيرة لفقد تلك العناصر البدائية الأولى للدراما , مما جعلنا لا نستطيع التعرف على الجذور و بداية نشأة الدراما على وجه اليقين و مدى إرتباطها بالأصل الديونوسى . من هنا يمكن القول بأن ديونوسوس كان له إرتباط قوى و حيوى بالدراما البدائية الأولى ، و بما أنها لم تصل لنا أية شواهد أو أدلة لدراستها و التعرف عليها ، فإننا لا نستطيع تخمين مدى الصلة بين ديونوسوس و بين المباريات الدرامية فى العصر الذهبى لها. و من الواضح أن عضو الإخصاب و الذكورة قد لعب دوراً هاماً فى نشأة الكوميديا . يحدثنا أرسطو أعظم الثقات فى الشئون المسرحية ، و الذى كتب ما كتبه عنها بعد تلك الفترة من الزمان عن نشأة المأساة و الملهاة فيقول : " لقد نشأت كل من المأساة و الملهاة بطريقة فجة و من غير خطة مرسومة و لا فكرة مدروسة ، الأولى من قادة الأغانى العنزية( الديثرامبوس) ، و الأخرى من أولئك الذين كانوا يقومون بقيادة أناشيد الذكورة " يقدم لنا أرسطو إشكالية و معلومة فى آن واحد . فعضو الذكورة Phallos قد شكل حلقة الإتصال بين العبادة و الكوميديا . ( ) فنحن نجد فى بعض أجزاء من كوميديات أرسطوفانيس القديمة شواهد و أدلة تثبت أن من ضمن أدوات الإكسسورات للكوميديا القديمة كان يوجد عضو الذكورة مصنوعاً من الجلد فى حجم معقول كان يرتديه الممثل أثناء التمثيل حول خصره . ( ) من هنا يبدو مدى الصعوبة فى فهم أو تصور كيفية نشأت الدراما الكوميدية فى صورتها الكاملة من هذه المقاطع الغنائية الدرامية الفقيرة التى كانت تحتوى على عضو الإخصاب . و يشير Radermacher OL.إلى أننا لا يمكننا بهذه الطريقة وضع أساس سليم لدراسة و فهم نشأت أحد أنواع الفنون . ( ).و الشىء المؤكَّد هو أنه عندما تطورت كل من التراجيديا و الكوميديا ، فإن الشكل البدائى الهمجى لعبادة الإله ديونوسوس قد أختفى من الدراما و أكتسبت شكلاً جديداً أكثر تهذيباً .
و من خلال دراسة مضمون المسرحيات ، يمكننا القول أن الدراما، قد أتخذت لها طريقاً خاصاً بها، إلى درجة يمكن معها القول أن التراجيديا ليس لها أى إرتباط بالإله ديونوسوس( ). بالتأكيد ظل الإرتباط بالعبادة موجوداً ، و لكن عنصر التنافس فى المباريات الدرامية ساعد على تقديم صورة و شكلاً غير دينى لكل العملية الدرامية . إن ما كان يشعر به الإغريقى من رضى و إنسجام أمام هذا الشكل الجديد للتبارى و المنافسة الدرامية، كان هو الدافع الذى سيطر على الشعراء و القائمون على العملية الإحتفالية للوصول للكمال و محاولة الفوز فى المسابقات ، هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى ، كان لكسب ود الجمهور و جذبه لهم . و هذا لا يتوافق مع الدراما الدينية ، حسب المفهوم الحديث للدراما ، التى أرتبطت بالطقوس و الشعائر . فعندما كان الشاعر يقدم عمله الدرامى بنفسه و يفوز بجائزة المنافسة ، كان الأمر مفهوماً ، فكان دور النقاد يتحدد على مدى إجادة الشاعر فى عرض قوة و عظمة الإله . و لكن عندما حل الممثلون محل الشعراء و قاموا بأداء الأدوار تمثيلاً كانت الغاية المرجوة من الأداء هى الإجادة للفوز بالجائزة ، و من هنا كان الفائز هو الجانب الفنى فى المقام الأول . و بذلك أدرك الأثينيون أن و ظيفة المسرح ترفيهية بالإضافة إلى الأهداف الأخرى .
ب‌- الديونوسيا الكبرى
عيد الديونيسيا الكبير: ( و يُسمى أيضاً الديونيسيا فقط) Dionysia كان أهم و اكبر الأعياد من حيث الفخامة و درجة الإستعدادات رغم عدم وجود أى تقاليد مرجعية قديمة لديهم ’ و مع ذلك يمكن إرجاع هذه الإحتفالات القديمة إلى الأعياد الأخرى الخاصة بديونوسوس و المتعلقة بموسم بدء الزراعة .و ليس لدينا معلومات على وجه اليقين تخبرنا عن متى و من هو الذى فكر فى إقامتها . و من المعروف أن المسئول عن تنظيم هذا المهرجان لم يكن كبير الكهنة أو أى رجل دينى آخر و لكن كان ممثل الحكومة فى الموضوعات الغير دينية و هو الحاكم المدنى archon الأرخون أو الأراخنة الذى كان يعتبر السئول الأول و الأخير عن إقامة المسابقة المسرحية , و إليه يُعزى نجاحها أو إخفاقها.و كان الأرخون يسهر على تنفيذ عدة خطوات ضرورية ليضمن نجاحها و كان الإحتفال يُعقد على شرف ديونوسوس اليوثيراى Eleuthereus . و كان تمثاله يُجلب من اليوثيراى Eleutherae و هى مدينة على الحدود الآثينية البيوتية . و كان معبده يقع على المنحدر الجنوبى من الأكروبول ، حيث يقع مسرح ديونوسوس.( ) و من المحتمل أن الطاغية بيسيستراتوس هو الذى أعاد تنظيم هذا العيد و إضاف له رونق و لمسة جمالية عن طريق إعداد جوقات ديثرامبية و تراجيدية .
وهكذا بجانب عيد الربة أثينا ( Panatheneia) ، أقدم الأعياد التى كانت تقام على شرف الربة حامية مدينة أثينا و كان يحتفل به كل خمس سنوات ، دخلت العبادة الجديدة , عبادة الإله ديونوسوس إلى أثينا فى منتصف القرن السادس قبل الميلاد ، و كان مدة العيد ( خمسة أيام فى العصر الكلاسيكى) الكبير للإله الديمقراطى الجديد . و مع صعود نجم أثينا السياسى و بروزها كدولة عظمى وسط المدن اليونانية الأخرى ، فإن أهمية العيد و الإحتفال به قد تجاوزت حدود أثينا الضيقة ، و هذا يرجع إلى حد كبير إلى العروض المسرحية . و كانت الإحتفال بالديونيسيا الكبرى الذى كان يقام فى أوائل الربيع ، الوقت المناسب لإبحار السفن ، و ذلك حتى يتمكن حلفاء أثينا من المشاركة فيه . فقد كان على أعضاء الحلف الأثينى تقديم الأموال المقررة عليهم لأثينا . و قد استغلت أثينا هذا العيد لإبراز عظمتها أمام الحلفاء . فقد كان هذا التجمع الكبير يلعب دوراً سياسياً هاماً و فى نفس الوقت لعب دور البرلمان . فمع تواجد شخصيات عامة من المدن اليونانية المجاورة و الحلفاء لأثينا ، كانت تتخذ قرارات هامة كثيرة لم يكن لها أى طابع دينى على الإطلاق . و هكذا من أجل الشعب و بإسمه يتم تكريم بعض المواطنين الذين قدموا خدمات جليلة للدولة بمنحهم اكليل ، بينما تم منح الشباب الذين فقدوا ذويهم فى الحرب بزة عسكرية كاملة لكل منهم ، و بهذه المناسبة أيضاً تم تقديم المكرمين أمام هذا الحشد الكبير . ( ) بالإضافة إلى هذا و طبقاً لما أشار إليه إسوكراتيس الخطيب ، من أن الحاكم الأثينى قد إستعرض أمام الجمهور و ممثلى الحلفاء الفائض المالى السنوى على الأوركسترا ، و ذلك عن طريق وضع هذه التالنتات فى أوعية كبيرة ( ) ، و لم يكن هذا عملاً مهذباً من أثينا خصوصاً أنه كان يتم امام الحلفاء المتواجدين فى المهرجان . و هذا التظاهر الواضح بالثروة و القوة امام نظر الإله , لم يكن له إلا طابع سياسىواضح.
و كانت الديونيسيا إحتفالية كبيرة شارك فيها بفاعلية جزء كبير من المواطنين الأحرار ، فقد كانت هذه المشاركة تعتبر فى نظر الكثيرين مساوية لأعظم حدث على مدار السنة. فقد شارك أكثر من 150 راقص فى العروض الدرامية ، و اكثر من ذلك ( عدد الف ) كانوا هم المنشدون للكورسات الديثرامبية. فقد كان الإعداد لهذه الإحتفالية يستغرق شهوراً كثيرة . ( ) و من هنا لم يكن غريبا ذلك الإرتباط الوثيق للمجتمع الأثينى بالمسرح , لم يكن هناك هوة أو تباعد كتلك التى نراها اليوم بين المسرح و الجمهور ، فقد كان راقصى السنوات السابقة هم من جمهور اليوم و العكس . و كثير من المشاهدين كانوا يعلمون ، عن خبرة شخصية، ماذا تعنى دراسة واعداد و تنفيذ جوقات إحدى التراجيديات.
و ليس من الخطأ أن ُيْفَتَرْض أن مضمون المسرحيات التى سوف تُعرض ، قد شكلت موضوعاً حاداً للنقاش و أن بعض من التفاصيل كانت معروفة مقدماً ، فقد كان عدد المُشاركين فى اعداد العرض كبير . و على الرغم من معرفة موضوع المسرحيات ، فقد كان يتم تقديم رسمى لكل العروض المسرحية التى سوف تشارك فى المنافسة قبل بداية الإحتفالات الديونوسية بيومين و ذلك فى عيد أسكليبيو فى اليوم الثامن من عام إلافيبوليون Ελαφηβολιον ، حسب التقويم الأتيكى . لهذا الغرض كانت تُقام إحتفالية , يُطلق عليها إسم Ποαγων(13) , و مازالت تفاصيل هذه الإجراءات مجهولة لنا و غامضة للأسف . و على وجه الخصوص كان يهمنا أن نعرف إذا كان الشعراء يقدمون مُلخصاً لأعمالهم المسرحية أم أن هذا الإعلان كان محصوراً فى تقديم عناوين أعمالهم . و المؤكد هو أن الشعراء الذين وقع عليهم الإختيار ، مع الجوقات΄οι χοροι و الممثلين οι υποκριτες بالإضافة إلى الممول ο χορηγος قد قاموا بتقديم أنفسهم للجمهور فوق منصة مرتفعة و توجوا رءوسيهم بأكاليل من أغصان الشجر وأوراقه ، تعبيراً عن هذه الإحتفالية الغير عادية . و لم يكن هناك أية أقنعة أو حتى ملابس مسرحية يرتديها المشاركون فى هذه الإحتفالية حتى لا يُخفون هويتهم عن الجمهور و كى يتعرف عليهم قبل بداية العروض الدرامية . اين كان يتم تنفيذ هذا البرنامج التمهيدى للإحتفالΠροαγων ؟ لقد كانت القاعة الموسيقية Ωδειο هى المكان المُعد لهذه الإحتفالية ، بعد أن قام بيركليس بإعداد هذا المكان و تهيئته فى عام 444 ق. م . و ليس لدينا أية معلومات قبل هذا التاريخ عما كان يدور هناك . و ربما يكون هذا الإعداد التمهيدى Προαγων قد بدأ فى منتصف القرن الخامس ق. م . ، و يبدوا أن هذا الإعداد أو التمهيد للعروض المسرحية قد بدأ فقط فى عصر الديمقراطية الأتيكية. و لم يتم إستخدام المسرالُملحق بالمعبد المقدس ، و هو ما يُقدم دليلاً على عدم إعتبار ال προαγων جزءاً أصيلاً مكملاً للإحتفال .
و قبل أن يبدأ العيد ، كان يتم إعادة تمثيل رحلة وصول الإله ديونوسوس من اليفثيريوس إلى أثينا . فمن غير المُستبعد أنه فى اليوم السابق للإحتفالية كان يتم حمل تمثال الإله المعبود ديونوسوس إلى أحد المعابد خارج أسوار أثينا، و بعد غروب الشمس كان يتم إعادة التمثال بمصاحبة المشاعل إلى مكانه الدائم ، فى المعبد المقدس بجوار المسرح ( 15) و كان الشباب يُشارك فى إحتفالية إعادة تمثيل رحلة الإله. و قد سُمِح أيضاً فى هذا اليوم للبرلمان بالعمل (16) و هذا دليل على أن إعادة نقل تمثال الإله ديونوسوس لم يُشكِّل جزءاً مُكمِّلاً للإحتفالات الديونوسية . و كل ما كان يتم فى الليلة التالية هو إشاعة خبر ظهور الإله( هكذا كانت ترى التقاليد) و بهذا كانت تبدأ سلسلة الإعداد لمظاهر الإحتفالات .
ففى اليوم الأول للإحتفال كان يتم تقديم عمل دينى مميز ، و هو الموكب العظيم للأضحية. فى هذا الموكب كان يُشارك فقط كل من له دور فعلى و حيوى فى المسابقات ، ( 17) و قد شاركت النساء أيضاً ، و هو ما كان فرصة نادرة لخروج النساء من المنزل (18). و قد أعتبرت دولة أثينا هذا العيد دافع قوى لإبراز دورها القيادى البارز فى بلاد اليونان و ذلك عن طريق تقديم مظاهرإحتفالية مليئة بالفخامة و الإبهار . فبجانب موكب الأضاحى كان يوجد تقديمات و مظاهر إحتفالية أخرى مُتعدِّدة ، حيث كانت فتيات الأسر الأرستقراطية تحمل هذا التقديمات فى أوانى ذهبية فى موكب فخم يعبر عن ما وصلت إليه أثينا من إزدهار و تقدم . و كما كان فى أعياد بداية الزراعة الديونوسية κατα αγρους Διονυσια ، تُقدم العروض الفالية οι φαλλικες παραστασεις التى ترمز لخصوبة الأرض ، و من أجلها عبد الناس الآلهة. و من مجموع هذه المواكب الفخمة تم تقديم صورة رائعة مبهرة و بألوان زاهية بديعة : فقد أرتدى مواطنى أثينا ثياب بيضاء ، بينما أرتدى ضيوف الإحتفال القادمون من مدن يونانية أخرى الثياب الحمراء . بالإضافة إلى هذا فقد تميز الممولون οι χορηγοι بملابسهم الفخمة المعبرة عن الأرستقراطية و الثراء , فقد كان الإهتمام مركزاً عليهم فى هذا اليوم ، تعويضاً لهم على ما قاموا بتقديمه من أعباء باهظة فرضتها عليهم الدولة فى سبيل إخراج و اعداد هذا العيد. (19)
و على الرغم من شعبية هذا العيد ، فإن معلوماتنا عن كيفية إعداده و تنظيمه ناقصة و غير مؤكدة . فمن الواضح أن السبب كان بديهياً ، فالأمر كله كان معروفاً و شائعاً و يُشارك فيه جميع الأثينيون و لهم فى ذلك خبرات شخصية ، و لم يكن هناك سبباً مُلِحَّاً يدفع إلى تسجيل هذه الوقائع و الأحداث لا . و هكذا فإننا لا ندرى بالضبط من أى موقع فى المدينة كان يبدأ الموكب . و المؤكد أنه كان ينتهى أمام معبد ديونوسوس فى إليفثيريا . و من هناك و بعد الإنتهاء من تقديم الأضاحى ، كان الحشد يتجه إلى المسرح المجاور . و مع افتراض أن الموكب كان يبدأ فى الفجر ، يمكننا أن نتخيَّل أن الجمهور قد تجمع فى المسرح مُبكرا جداًً. و أمام هذا الحشد الضخم كان يتم تقديم جوائز التكريم لبعض الشخصيات الوطنية المميزة الذين قدموا أعمال اً جليلة للأمة ، و عند المساء كان يتم تقديم العروض الديثرامبية ، و هى عبارة عن أناشيد دينية يقوم بإنشادها جوقات مُشكَّلة من الرجال و الشباب . و ليس فى إمكاننا تأكيد الرأى القائل بأن أول أيام العيد ، على الرغم من تقديم برنامج ضخم فى هذا اليوم ، كان ينتهى بمهرجان إستعراضى صاخب كبير فى شوارع المدينة ( ( Κωμος و هو النشيد الماجن ، و هذا يتوقف على البحث التى سوف نقوم به و الذى يتعلق بالدليل الوحيد المرتبط بهذا الموضوع ، فى قانون يواجوروس Ευηγορος الذى اشار إليه الخطيب الشهير ديموسثنوس Δημοσθενης فى حديثه ضد ميديا κατα Μειδιου (20) . و غالباً ما يبدو منطقياً أن عيداً قد بدأ بصفة رسمية شديدة , لابُد و أن ينتهى بصورة تلقائية ، بتظاهرات إحتفالية صاخبة تُعبر عن الفرحة و البهجة (21).
و كان الديثورامبوسDithurambos) (، على وجه الخصوص ، أغنية دينية للإله ديونوسوس , و يتخذون أسطورته موضوعاً لأناشيدهم ، فيتحدثون عن ميلاده , و يتناولون حياته بالتفصيل , و يصفون الأخطار التى واجهها . و كان الشاعر يضم إليه جماعة من الناس , يلقنهم بعض الأبيات التى تفيض بالحزن و الأسى, يرددونها أثناء الإنشاد , و كان أفراد هذه المجموعة( الجوقة فيما بعد ) يرتدون جلد الماعز ليظهروا بمظهر الساتوروى ( Saturoi ( , أتباع ديونوسوس . و كان هذا الكورس الراقص مكون من الرجال و الشباب من الذكور بمصاحبة الناى (22) . و الكلمة " ديثورامبوس" هى أحد الألقاب القديمة التى أُطلقت على الإله ديونوسوس , و هى كلمة استعصت على محاولات طويلة لتفسيرها أو حتى معرفة مصدرها . و المتعارف عليه أنها ليست كلمة يونانية . و تستعمل للتعبير عن الإله و أيضاً عن الأغنية الدينية ، الذين جاءا معاً إلى اليونان من شعوب ثراكى و فريجيا و انتهى بهم المقام فى أثينا ، بعد مرورهما بكورينثوس . هناك ، فى بلاط الملك بيرياندروΠεριανδρου كما علمنا، كان أريون Αριων ( حوالى 625 ق. م. ) يقوم بتعليم القصائد الديثورامبية ، و إليه يرجع الفضل فى تحوِّل الأغنية الدينية الإرتجالية إلى عمل فنى محدد المعالم , كما أعطى عناوين لأغانيه الكورالية التى كان مضمونها قصصياً سردياً , و أهم نقطة بالنسبة لبناء ما قبل تاريخ التراجيديا هو أن" آريون " قد عرض انتاجه الديثورامبى بواسطة الستير Satyrs . و هو أيضاً أول من طلب الى أحد أفراد الجوقة – و هو الذى أصبح يُطلق عليه فيما بعد اسم " اكسارخوس" أى رئيس الجوقة - أن يصعد الى مائدة القرابين ليلقى على المستمعين فى صورة سرد قصة تتعلق بالإله ديونوسوس , مُشيداً بمغامراته و رحلاته العجيبة , بينما يُعلق أفراد الجوقة على هذه القصة من حين لآخر ببعض الأبيات التى تناسب المقام , و لم ينتقل الأمر من مرحلة السرد الى مرحلة التمثيل الا على يد شاعر آخر هو ثيسبيس الذى أزدهرت أعماله حوالى عام 535 ق.م , و هو تاريخ أول مسابقة مسرحية عقدت فى أثينا .(ايسخيلوس مسرحية ) و من هنا تظهر النقطة التى تقارب فيها الديثورامب مع الدراما الساتورية , و بذلك وُجد الأصل المزدوج للتراجيديا , الذى حدده أرسطو فى « الشعر Poeticas» لسوء الحظ لم يصل إلينا إلا عدد قليل من القصائد الديثرامبية ، على الرغم من الكم الكبير الذى كان يُقدم فى هذه الإحتفالات و المهرجانات، و تطوره الفنى الكبير الذى وصل إلى حد الكمال فى النصف الأول من القرن الخامس ق.م . و قد كتب كل من سيمونيديسΣιμωνιδης ، بنداروس Πινδαρος ، وباكخيليديسΠακχυλιδης ( و يجب أن نشير هنا أنه لم يكن اى منهم أثينى المولد) قصائد و أغانى ديثورامبية للعروض الديونوسية . أما فيما يتعلق بالشاعر باكخيليديس فإن ما تم العثور عليه من أوراق البردى الهامة ، يساعدنا على رسم صورة ، حتى ولو كانت صغيرة، لخصائص هذه القصائد و الأشعار الديثورامبية(23) . فمن ناحية الشكل ، فإن هذه القصائد الغنائية تذكرنا بأغانى الجوقات فى المسرحيات التراجيدية و بناءها الفنى ، فقد كتبت على شكل مقاطع شعرية ، و لكن من ناحية الموضوع، فقد ابتعدت عن الأغنية الدينية بمعناها الضيق . أما فيما يتعلق بأبعاد الموضوع ، فإن التأثير القوى للشعر الملحمى كان كبيراً جدأً وواضحاً، فقد تضمَّنت هذه الأشعار أجزاء سردية كبيرة على شكل اسطورى، تحمل عناوين مختلفة حسب مضمون القصيدة الديثرامبية . و هكذا كان من الصعب ، ليس فقط ، أن نجد علاقة ما بالأساطير الديونوسية ، و لكن أحياناً ، يختفى تماما أى إشارة إلى أى فعل إلهى ، إلى حد أن أطلق البعض على هذه الأشعار الديثرامبية " الأغانى البطولية"( 24).
و لكن الإجماع أو اتفاق وجهات النظر بالنسبة للشعر الديثورامبى و تطوره إلى التراجيديا عسير للغاية , فأولاً الرأى الذى يقول بأن وضع الشعر الديثرامبى و رئيس المنشدين (أو الاكسارخون) فى ابتداء تطوره حسب رأى أرسطو , هما اللذان اديا إلى التراجيديا . و يشتق أرسطو الدراما من الارتجال , بإعتبار أن بدايتها كان اولئك المرتلين للديثورامب ( Poetics 1449 a 9) و قد تعنى العبارة hoi exarchontes ton dithyrambon الواردة عند أرسطو اولئك المنشدون الذين بدأوا الانشاد , و من ثم تميزوا عن الجوقة . و من الواضح أن أرسطو كان يعتقد ان التقابل بين الجوقة و المرتل قدم نقطة البدء فى تطور الحوار الدرامى . و الرأى الثانى يقول أن " الكورس التراجيدى" هو الذى أوحى لمعاصرى سوفوكليس و يوريبيديس بفكرة المشهد الدرامى كما توجد أراء أخرى مُخالفة لهذا.
و الواقع أن تطور الديثرامبوس من إنشاد سيرة بطولية بشكل صلاة و دعاء و ابتهال الى الإله , إلى الكورس الذى يقوم بالرقص و الإنشاد متقنعاً بشكل الساتير أى مخلوق نصفه حصان ليس فى أثينا فحسب بل فى كل بلاد اليونان اى ديثرامبوس احتفالى مع قصص ميثولوجى يرتجله رئيس الكورس( أى اكسارخون)
و من خلال ما تم الإشارة إليه , يبدو أن التراجيديا قد تطورت و نبعت فكرتها من رؤساء الجوقات Exarchon اكسارخون أو Exarchosاكسارخوس Εξαρχονταςالديثرامبية.( 25)
و مهما تعددت الروايات حول نشأت المأساة الأثينية , فمن المقطوع به أن المأساة قد نبتت من الرقصات و الأغانى الديثورامبية , ثم أخذت تتطور تدريجياً حتى صارت فناً قائماً بذاته. و من المؤكد أن الديثورامبوس قد تطور تطوراً سريعاً منذ أن أرتبط بأعياد هذا الإله التى تقام فى أثينا . و هكذا صدق أرسطو عندما قال بأن الدوريين كانوا أصحاب الفضل فى خلق المأساة , وصدق أيضاً الذين قالوا بأن الأثينيين كانوا أصحاب الفضل فى جعلها فناً أدبياً رائعاً . ففى سيكوون و كورينثة الدوريتين ظهرت بذور المأساة , و أخذت تنمو حتى حققت فى هذه البقاع نوعاً من الرقى , ثم انتقلت إلى أتيكا حيث اكتملت عناصرها , و أتخذت صورتها النهائية ؛ فهناك تحول القاص إلى ممثل بالمعنى الصحيح , و أصبح رئيساً للجوقة , يقوم بالدور الأساسى , فيمثل شخصية الإله , كما يقوم بسائر الأدوار بأن يدخل خيمة (Skene و يغير ملامحه و ملابسة, و يمثل دور الرسول أو البطل .. و كان كل مرة يخاطب أفراد الجوقة فى موضوع مختلف, و بذا تعددت أغانيه و امتلأت المأساة حياة و حركة بفضل تنوع مهمته

المسرح الشعري

علاقة المسرح بالشعر
المسرح شكل من أشكال الفنون يؤدى أمام المشاهدين، يشمل كل أنواع التسلية من السيرك إلى المسرحيات. وهناك تعريف تقليدي للمسرح وهو أنه شكل من الفنون يترجم فيه الممثلون نصّاً مكتوباً إلى عرض تمثيلي على خشبة المسرح. يقوم الممثلون، عادة، بمساعدة المخرج على ترجمة شخصيات ومواقف النص التي ابتدعها المؤلف.
عادة ما يكون الحدث المسرحي عملاً مشوقاً لكل من المشاهد الممثل والفنّي، بغض النظر عن مكان عرضها: مسرحاً محترفاً أو مسرحاً مدرسيّا أو مجرد مساحة أقيمت مؤقتاً لهذا الغرض. وتتدرّج العروض من التسلية الخفيفة، مثل العروض الموسيقية والكوميديا، على تلك التي تبحث في موضوعات سياسية وفلسفية جادة.
ولا بدّ لنا أن نفرق بين المسرح والمسرحية رغم أنهما تستخدمان عادة وكأنهما يحملان المعنى نفسه، ذلك لأن المسرحية تشير إلى الجانب الأدبي من العرض أي النص ذاته. وعلاقة المسرح بالمسرحية علاقة العام بالخاص، أو بمعنى آخر المسرح شكل فني عام ،أحد موضوعاته أو عناصره النص الأدبي (المسرحية). ويعتقد بعض النقاد أن النص لا يصبح مسرحية إلا بعد تقديمه على خشبة المسرح وأمام الجمهور. ويقول آخرون: إن النص ليس سوى مخطط يستخدمه المخرج والفنانون الآخرون أساساً للعرض.
والعرض المسرحي أكثر الفنون تعقيداً؛ لأن أداءه يتطلب العديد من الفنانين. ومن بين هؤلاء المتخصصين: المؤلف والممثلون والمخرج ومصممو الديكور والأزياء وفنيو الإضاءة ومهندسو الصوت و وغيرهم من الفنيين. كما تتطلب بعض العروض الأخرى مصممي الرقصات وموسيقيين وملحنين ويسم المرح أحياناً الفن المختلط؛ لأنه يجمع بين النّص والجو الذي يبتكره مصممو الديكور والإلقاء والحركات التي يؤديها الممثلون. لذلك يطلق عليه بعض النقاد أبا الفنون، تجتمع كل هذه الفنون في تناغم وتناسق لتكون في النهاية المسرحية ذاتها التي تشكل مع كل هذه العناصر وحدة فنية واحدة.
ولذلك فالفن المسرحي جماع مجهود عدد من الفنانين في مختلف التخصصات تشترك جميعا في إيجاد العرض المسرحي وتشكيله.
والمسرح أكثر الفنون تأثيراً في الناس ؛ فمشاهدة أية مسرحية تعد التحاماً حيّ بين الجمهور والممثلين على خشبة المسرح. والممثلون يجسدون أمام المشاهد جانباً من التجربة الإنسانية ويفسرونها، فيخرج المشاهد و قد أضاف إلى نفسه ـ إلى جانب المتعة ـ معرفة بالحيلة سواء أكانت في شكل سلوك إنساني، أو نظرة إلى الكون، أو موقف من الحياة.
نشأة المسرحية وتأريخها:
أقدم المسرحيات التي عرفها الأدب الغربي هي المسرحيات الإغريقية، وكان لنشأته في بلاد اليونان علاقة بعقائدهم(حيث كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة)ز وكان من آلهتهم التي قدسوها ديونيسوس أو( باخوس) إله النماء والخصب وبخاصة العنب والخمر، وقد اعتادوا أن يقيموا له حفلين أحدهما في أوائل الشتاء، بعد جني العنب وعصر الخمور، ويغلب عليه المرح وتنشد فيه الأناشيد الدينية، وتعقد حلقات الرقص، وتنطلق فيه الأغاني، ومن هذا النوع المرح نشأت الملهاة( الكوميديا)، والحفل الثاني في أوائل الربيع حيث تجف الكروم وتتجهم الطبيعة، وهو حفل حزين منه نشأت المأساة( التراجيديا).
علاقة الشعر بالمسرح:
أولاً: العلاقة التأريخية:
مما تقدم نفهم أن المسرحية لدى الإغريق تكونت وكان هاجسها الأساسي ذلك الشعور الديني والوجداني في عبادة الإله ديونيسوس إله الخمر ويقال أنهم تعلموا اسمه في فترة لاحقة للفترة التي عرفوا فيها أسماء الآلهة الأخرى، حيث يقال أنه جاء عن طريق القبائل نصف الإغريقية بآسيا الصغرى، ويشير الطابع الوجداني لطقوس ديونيسوس إلى هذا الأصل الآسيويين ومما يدل على هذا الطابع الريفي لديونيسوس ما حمله من عدة ألقاب، منها (المزهر) و(المثمر) و(المورق) و(اليانع)، وكونه في فصل الربيع يوقظ الأرض من سباتها الشتوي العميق، ويبعث فيها القوة والدفء والحركة، وكونه أيضا ًـ في المقام ـ الأوّل إله الكروم ومخترع النبيذ فقد قدسه البشر ووضعوه في مصاف أكبر القوى الخيرة؛ لأنه خلصهم من الألم والمتاعب، فخلعوا عليه لقب ( المخلص من كل الهموم).
وبهذا الاختراع فقد صار ديونيسوس بفضل الخمرة التي اخترعها والتي تبعث النشوة في النفس وتبعث على قرض الشعر، وعلى الرقص والفن ـ صار راعياً للموسيقى والشعر وحمل لقب المغني فكانت أشعاره التي يلهمها سريعة الانتقال بين المرح والنشوة وبين الألم والمعاناة والقسوة وبين المجون الصاخب، وكان كل ذلك متماشياً مع طبيعة الاحتفالات التي كانت تقام تحت رعاية إله الخمر، ومثل هذه الحرية والتنويع، والخروج على كل القيود الصارمة عوامل جعلت من الأغنية( الديونيسوسية) الجماعية بذرة صالحة لاستنبات المسرحية أو الدراما
ومن هذا التكوين الشعري للأغنية الديونسيسوية خرجت أولى أشكال المسرحية الإغريقية بل أولى أشكال المسرح الشعري أساساً الذي منه تكونت الدراما أو خرجت عليه مكونة بذلك علاقة مهمة بين الشعر بصفته معادلاً مهماً ليس للغة فحسب، بل للغة وللحالة الشعرية التي كانت تتمثل في النشوة والتقلب والتحول أو الانتقال بين الحالات الشعورية والحسية، وبين المسرح الدرامي الذي ينبني ـ أساساً ـعلى حالة من التوازن في إيجاد التكوين الدرامي سواء للنص أو الشخوص أو الإخراج، إذاً فربما يكون المسرح الشعري ليس وليد حالة لغوية أو ايقاعية بحتة، بل هوأساساً كن وليدحالة شعورية ناتجة عن (النشوة) والتقلب بين الفرح والحزن والمرح والألم الذي كانت تبعثه الخمر في نفوس منشدي ديونيسوس، و من هنا نستطيع العودة إلى الأصل الحقيقي للمسرح الشعري و منه نستطيع توضيح ملامح هذا المسرح الناتجة ـ أساساً ـ عن حالة فلسفية تأخذ من النشوة علامة لها ومكوناً أساسياً في فهمها.
من ذلك نتبين أن المسرح في أصوله كان باباً من الشعر، وبقي كذلك بشكل واضح في عصر ازدهاره في إنجلترا، أي في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وكذلك في فرنسا طوال القرن السابع عشر الميلادي وفي كلتا الحالتين كان المسرح يكتب شعراً مقفى في فرنسا ومرسلاً في إنجلترا.
ومع ذلك فإن تغليب الواقعية على الفن المسرحي في أوروبا ـ بعد ذلك ـ جعل النثر يحتل
إلا أنه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، عاد الاهتمام من جديد في فرنسا بالمسرح الشعري ، فقد كتب الشعراء بعض المسرحيات شعراً، كما فعل الشاعر الفرنسي تيودردي بانفيل في مسرحيته جرنجوار (1823 ـ 1891)
والعصر الذهبي للمسرح الشعري في فرنسا من1890 إلى1910، ويمكن وصف إدموند روستان بأنه كان عملاق ذلك العصر خاصة في مأساته الشعرية"سيرانودي برجراك(1897) والنسر الصغير(1900)
وفي إنجلترا بعث ت. س. إليوت المسرح الشعري بعثاً جديداً بكتابته لمسرحية الصخرة 1934 وقد كتب هذه المسرحية لغرض خيري وهو جمع التبرعات لبناء بعض الكنائس مستوحيا أساليب المأساة اليونانية القديمة، وقد حاول في مسرحياته الأخرى أن يجمع بين الشعر المرسل وروح المأساة اليونانية.
وكانت المحاولة الأولى للمسرحية الشعرية في الأدب العربي على يد خليل اليازجي في مسرحية( المروءة والوفاء) التي ظهرت عام 1876 ومثلت على مسرح بيروت 1888، وكانت أحاثا تدور في زمن النعمان ملك الحيرة وهي ذات لون عربي واضح صورت بعض المثل التي ميزت العرب عن سواهم.
ومن الذين عنوا بالمسرح والترجمة له محمد عثمان جلال وكان يعرب بعض المسرحيات الفرنسية شعرا ويضفي عليها روحا مصرية خالصة، كما ترجم بعض المسرحيات زجلاً . ثم انتقل المسرح المصري إلى طور جديد بعد قدوم أبو خليل القباني وفرقته المسرحية من دمشق1884 حيث اتجه نحو التاريخ العربي والإسلامي فوضع مسرحيات عنترة والأمير محمود نجل شاه العجم وناكر الجميل وهارون الرشيد وغيرها وقد امتاز أسلوبه بلغة راقية أقرب إلى الفصحى، وقد استعمل السجع والشعر معاً.
وفي النهضة الحديثة أدخل أحمد شوقي الشعر المسرحي بعد إنهاء بعثته إلى فرنسا، وبعد عودته من منفاه بأسبانيا بعد الحرب، إذ خلص إلى شعره وفنه وترك الحياة الرسمية في القصر، وأخذ يغني عواطفه القومية، وألف في الشعر المسرحي ست مسرحيات كلها مآس، ثلاث منها تصور العواطف الوطنية، وهي: "مصرع كليوباترة" و "قمبيز" و "علي بك الكبير" وثلاث صورت العواطف العربية الإسلامية؛ وهي: "مجنون ليلى"و "عنترة" و" أميرة الأندلس".
وجاء بعد شوقي الشاعر عزيز أباظة الذي اتخذ شوقي إماماً له، فألف من النمط الوطني : "شجرة الدر" ومن النمط العربي" قيس ولبنى" و" العباسة" و" الناصر"و" غروب الأندلس" واستمد بعض مسرحياته من الأساطير، فألف مسرحية "شهريار" واستمد مسرحية أوراق الخريف من واقع عصره.
ومن التطور الذي طرأ على الشعر المسرحي، اللجوء إلى الشعر المرسل في كتابة المسرحية، ورائد هذه المحاولة: محمد فريد أبو حديد، فقد كتب مسرحية" ميسون الغجرية" في قالب الشعر المرسل.
أما التجربة الثانية في هذا المجال فكانت مسرحية"أخناتون" ونفرتيتي للشاعر علي أحمد باكثير.
واستمرت هذه المحاولات بعد ذلك، فألف الشاعر صلاح عبد الصبور مسرحية " الحلاّج" وليلى والمجنون.
العلاقة الفنية الجمالية:
إذا أردنا توضيح الملامح الفنية الجمالية للمسرح الشعري فعلينا أن نسأل: هل الشعر في المسرح الشعري حالة مضافة للمسرح أي زائدة عليه، أم أنها في هذا النوع من المسرح حالة موازية، وربما تكون ملغية للكثير من أدوات المسرح المعتادة، ومضيفة أدواتها؛ سواء للمثل أو المخرج أو المؤلف أو المعد أو الفني؛ أي أننا هنا لسنا أمام المسرح بما هو عليه، وبما هو مسرح، ويصبح المسرح هنا لا يقوم على الشعر بحد ذاته بل يكون قائما على المفاهيم التي يقوم عليها الشعر ويشتغل بها.
ينظر الشاعر المسرحي صلاح عبد الصبور إلى المسرح فيرى أن (الرمز) الذي حرص كبار المسرحيين على الاستعانة به في مسرحهم وجعله بعداً ثانياً للمسرحية حتى لا تصبح مسطحة، ذلك العنصر الذي يتمثل في الشعر أول ما يتمثل، أدركنا أن في كل مسرح عظيم لوناً من الشعر أو لوناً من الشاعرية. وهذا الرأي لصلاح عبد الصبور يعطينا إشارة إلى فهم المسرح الشعري بوصفه مسرحاً قائماً أساساً على الشعر لا متسقاً ولا آخذاً منه، فإن أخذ بعض المسرحيين أداة من بعض أدوات الشعر لأغراض مسرحية أو إبداعية لا يجعل ذلك أبداً من العمل الفني المسرحي مسرحاً شعرياً. لأن إيجاد مسرح شعري يحتاج إلى حالة معينة في النص والأداء والإخراج والعرض تجعل مسرحاً ما مسرحاً شعرياً .
ولتحديد مفاصل العلاقة بين المسرح والشعر يجب علينا أن نحدد طبيعة مفهوم الشعر نفسه، وأن نتساءل ما هو الشعر؟ ورغم صعوبة السؤال إلا أنه لا بد من محاولة الإجابة عليه
يرى الدكتور إحسان عباس: أن الشعر( ظاهرة إنسانية لا يحد بدايتها تاريخ معين ولعلها وجدت منذ وجود الإنسان على ظهر البسيطة وهو مرآة تعكس الحياة بكل ما فيها من مفارقات ومتناقضات وهو تعبير عن إحساس النفس وخلجاتها تجاه مؤثر خارجي استنبطه الشاعر فأثر في عاطفته واصطبغ بوجدانه).
بينما يرى الناقد الإنجليزي هازلت: أن الشعرالمستمد من الشعور الصادق يصور الوجود في جوانبه المتعددة ومفاتنه الساحرة ويحلل القضايا والمشكلات ويعالج النفوس والأرواح ويجسد الآلام والمآسي في لأنماط من الألفاظ الأنيقة والمعاني الجميلة وكل ذلك في أمانة من الأداء وصدق في التعبير وتحليق في آفاق رحبة من الشعور المطمئن وأبعاد مستطيلة في أجواء الإلهام الفسيحة. ويقول ناقد آخر: إن دور الشعر أن يظل يتقدم دون توقف، أن يكتشف مجال الإمكانات في كل وجهة، وأن يبدو دائماً ـ مهما يحدث من أمر ـ قوة تحريرية ورصدية. أي أن الشعر لم يعد كما يرى إحسان عباس مرآة تعكس الحياة، بل أصبح كشفاً ذا مهمتين: الأولى تفسير العالم و لأخرى تحويله، وما إن نذهب أبعد باتجاه المدارس المذاهب الفكرية والفلسفية فسنرى تفسيراً مختلفا ًللشعر ودوره ، غير أن ما يقوم عليه الشعر ـ أساساً ـ ليس الدور ولا الشكل ولا الفكرة التي يتبناها، بل تلك القدرة على الإدهاش ولفت الانتباه، وكل ذلك يتمثل في أمور منها ما هو مستقر في الشعر مثل الصورة الشعرية بتغيراتها، والإيقاع الداخلي والخارجي بتغيراته أيضاً والفكرة والحيلة الشعرية أو الشرك الشعري، ومنها ما هو طارئ ومفاجئ في استخدامه الشعري الأول، وهو ما يبتدعه الشاعر من أشكال الصورة الشعرية، التي يذهب رونقها عندما تكرر، أو أشكال الحيل الشعرية المتكررة.
ولذلك فإن الحيل الشعرية التي يستخدمها الشعر ليست بذات بال في المسرح، لأن المسرح ـ أساساً ـ ليس قائماً على اللغة فحسب، بل هو قائم على عوامل أخرى أكثر أهمية من اللغة نفسها.
المكان والزمان في الشعر والمسرح
يقوم المسرح على فنون زمان وفنون مكان وهما عنصران يستعصيان على التوحيد، فكيف نستطيع أن نبدع منهما عملا فنياً متكاملا؟ فالزمن المسرحي محدد بالحدث المسرحي، والمكان محدد بالمحدث المسرحي أو الفاعل أو الشخوص، وكل هذا يتجه باتجاه خلق حالة درامية واقعية أو نفسية أو ذهنية ولكنها لا تخرج عن الحالة(الدرامية/السردية) في مقابل حالة أخرى يتمثل فيها الشعر، وهي الحالة( التفسيرية / الشعرية) فالدراما حدث، بينما الشعر تفسير أو انطباع شعوري حول هذا الحدث، ولذلك فإن المسرح الشعري يتعامل مع المكان بتعامل الشعر معه لا بتعامل المسرح، فيفقد المكان والزمان القيمة الفعلية والمادية لهما، وينطبعان بانطباع الشعر الذي يضفي على الزمان والمكان قيمة عاطفية، أو قيمة تأويلية تفسيرية. سئل أوجين يونسكو الكاتب المسرح الفرنسي عن دور المسرح فأجاب(إن الوظيفة الوحيدة للمسرح أن يكون مسرحاً) وأضاف: ( في هذا المعنى يعد المسرح لعبة عظيمة، هو عمل حرّ، يجب على المرء أن يجد فيه لغة حية، ليست لغة الواقعية، بل لغة تعتمد على( العالم الخرافي الرائع) الذي يتسم بالواقعية أكثر مما يسمونه العالم الواقعي، هو تقمص الأحلام والخيالات). فهو يصف اللغة بأنها تعتمد على( العالم الخرافي الرائع) ويصف المسرح بأنه(تقمص الأحلام والخيالات) وما ذلك الحلم سوى فقدان القيمة المادية للزمان والمكان ، وتضخم تلك القيمة التأويلية لهما.
وباختفاء القيم المادية للزمان والمكان ، تختفي كذلك القيم المادية للحدث والمحدث، أي السرد الدرامي والشخصيات، فتصبح الشخوص والأحداث في المسرحية الشعرية الحديثة، غير ملزمة بما هي ملزمة به في المسرح؛ لأنها ليست نتاج الحالة الدرامية السردية بل الحالة( التفسيرية/ الشعرية) أي الحلم كما قال يونسكو، وكما يفعل هو في مسرحه العبثي.
والعبثيون هم جماعة من الأدباء الشباب الذين تأثروا بالحروب العالمية فرأوا أن النتائج التي نجمت عن تلك الحروب كانت جميعها سلبية؛ لأنها خلّفت نفسية سيطر عليها انعدام الثقة في الآخرين فكانت عزلة الإنسان الأوروبي وفرديته، بالإضافة إلى الويلات والدمار المادي الذي شمل أوروبا كلها.
كان أول ظهور للمسرح العبثي في ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي فكان مسرحاً متمرداً على الواقع وتجديداً في شكل المسرحية ومضمونها.
في عام 1933م ألف الكاتب الفرنسي( صومئيل بيكيت) مسرحيته " في انتظار غودو" التي اتسمت بغموض الفكرة والخلو من العقدة التقليدية وانعدام الحل لما عرضته المسرحية فكانت رمزية مبهمة للغاية، ولوحظ فيها قلة عدد الشخصيات، وكان الزمان والمكان محددين تقريباً.وتتلخص المسرحية في ظهور بطلين هما: "فلادمير" و" استراجون" ينتظرون قدوم شخص ثالث يدعى" غودو" قد تكفل بحل مشكلاتهم كلها ، ويمضي اليوم الأول دون أن يأتي "غودو" ولكنه يرسل الراعي ليخبرهم بأنه سيأتي غدا، ويمضي اليوم التالي ولا يأتي" غودو" ، ويرسل الراعي بالرسالة نفسها ويبقى البطلان في انتظاره وهو لا يأتي حتى نهاية المسرحية وهما يأملان في قدومه.
توفي بيكيت عام 1989م تاركاً وراءه الكثير من الحديث والجدل عن غودو: من هو؟ هل سيصل؟ متى سيصل؟ ماذا سيفعل؟ أو يقدم؟ ترك بيكيت ظاهرة أدبية وفنية مهمة ومثيرة للجدل أطلق عليها اسم: مسرح العبث أواللامعقول أو الكوميديا المظلمة أو كوميديا المخاطر امتداداٍ لحركات أدبية مختلفة، ظهرت لفترات قصيرة في بدايات القرن العشرين الميلادي، منها على سبيل المثال " السريالية" وهي حركة أدبية فنية عبرت عن غضب الشباب من التقاليد التي كانت سائدة في تلك الفترة، كما عبّرت عن غضبهم من الحروب العالمية ونتائجها غير الإنسانية.
أهم سمات مسرح العبث العامة:
1 ـ التمرد علي المدرسة التقليدية الأرسطية العريقة بعناصرها الثلاثة: الزمان والمكان والحدث.
2 ـ المكان محدود جداً شجرة ( في انتظار غودو) أو غرفة أو كرس، لا يشعر من يعيش فيها براحة أو استقرار أو أمان على الإطلاق ، ويظل قلقاً دوماً. ويتسم المكان بالعتمة أو الضوء الخافت، أو الرطوبة العالية.
3 ـ عنصر الزمن غير ذي أهمية تذكر.
4 ـ لا وجود للحدث أو العقدة.
5 ـ عاد بالمسرحية إلى الفصل الواحد، والعدد المحدود من الشخصيات.
6 ـ الحوار ـ رغم أهميته ـ يكون غامضاً ، مبهماً ، مبتوراً، تعوزه الموضوعية والترابط والتجانس، ولا تستطيع الشخصيات توصيل رسائلها، وربما تكلمت بعض الشخصيات بكلمة أو كلمتين في نهاية المسرحية؛ تلخص السخط العام، والغضب الشديد. وقد تكون الشخصية الرئيسة خرساء كما في مسرحية( النّادل الأخرس( للكاتب هارولد بنتر.
7 ـ دور المرأة أقل أهمية من دور الرجل، وهي أكثر كآبة منه؛ لما تعانيه من اضطهاد اجتماعي واضح.
8 ـ اللغة فيها تكرار في الموقف الواحد، وهذا التراكم الكمي من الأسباب يعطي مدلولات واضحة للخوف، وعدم الطمأنينة والقلق، كما تبين غياب الحلول الفعلية لمشكلات كثيرة، وعدم القدرة على مواجهة الأمر الواقع، مع حيرة مستمرة، وقلق متواصل، وخوف متجدد من المستقبل.
ويعد مسرح العبث دراسة نفسية وفكرية لواقع الأوروبيين الاجتماعي المؤلم، ومن أهم المشكلات التي يعرض لها؛ معضلة الفردية؛ فالأوروبي ـ رغم حضارته المادية وتقدمه العلمي ـ يعاني فردية وانعزالية وعدم قدرة على بناء علاقات إنسانية ورصينة مع الآخرين.
ويرى بعض النقاد أن الكاتب المسرحي الكبير "صومئيل بيكيت" أكثر شعرية من "شكسبير" ؛لأنه كتب نصوصه بلغة الشعر ، بينما كتب شكسبير نصوصاً بلغة المسرح.